مدينة المكنين إحدى أكبر المدن الساحلية التونسية وأكثرها كثافة سكانية، مدينة ضاربة في القدم تشهد على نشأتها حضارات متعاقبة بونية ورومانية وإسلامية، تم اكتشاف ثلاث مقابر بونية في كل من أحياء “القلالات” و”القنال” و”الملعب”.. وصناعة الخزف فيها توارثتها الأجيال عبر العصور، وتتميز بأجود أنواع الفخار في العالم حفظتها ذاكرة المقابر والطقوس الجنائزية ولا تزال إلى اليوم مصدر رزق لأهلها.
تعددت المعالم والآثار الرومانية في المدينة وأطرافها وقد كشفت الخارطة الأثرية عن ستين موقعًا اندثر معظمها بعامل الطبيعة والإهمال ومثل ذلك الأفران في هنشير الشقاف وكنيسة بيزنطية في قصر جعفر وآثار أخرى في هنشير الفول وساقية الحمام ودار هارون وغيرها.
تعددت المعالم والآثار في مدينة المكنين وأطرافها وقد كشفت الخارطة الأثرية عن ستين موقعًا اندثر معظمها بعامل الطبيعة والإهمال
غير أن كتاب “المعالم الدينية في المكنين” وهو إصدار جديد للمؤلف شكري بن عبد الحفيظ اتجه نحو توثيق معالم إسلامية ويهودية تنحصر بين القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر ميلاديًا، كتاب أحصى عددًا من المعالم التي نحتت حضارة المكنين وصقلت هويتها الدينية وأثرت زادها العمراني.
كتاب في 85 صفحة حاول المؤلف تأثيثه بالصور الملونة لما بقي من المعالم الدينية ولم تندثر، لعل تلك الصور تبقى شاهدًا على العصر في زمن يعبث العابثون بما بقي من آثار الأولين، جوامع ومساجد وزوايا ومقامات وكنيس يهودي من بين ما تم جمعه في هذه الدراسة التوثيقية..
اقرأ/ي أيضًا: متحف “القبة” بسوسة.. درّة عمرانية تروي قصة “خديجة السوسية”
جولة صغيرة في رحاب المدينة القديمة بالمكنين رفقة المؤلف شكري بن عبد الحفيظ كشف لنا عن نواة المدينة وقلبها النابض وتلك التجمعات السكانية حول أول جامع أنشئ سنة 1252 م وهو جامع “بوعبانة” ومن حوله تراصّت الدور وصولًا إلى الجامع الكبير وسوق الصاغة وسقيفة اليهود والكنيس اليهودي الشهير.
كان فن العمارة في المدينة العتيقة مزيجًا من الثقافات المتلاقحة ويجمع بينها جمالية الفن ووحدة التاريخ وعشق المكان وترادفت الأقواس في الأبواب والشبابيك الحديدية والشرف المطلة على الشوارع والقباب الإسلامية والنقائش الفنية الإسبانية.
شكري عبد الحفيظ مؤلف الكتاب كان ينظر إلى هذه المعالم من خلال عدسة الكاميرا باعتباره مصورًا ورئيسًا للجمعية التونسية للتصوير الفوتوغرافي لذلك كان التركيز في كتابه على الصورة كأداة للتوثيق.
شكري بن عبد الحفيظ (صاحب كتاب “المعالم الدينية في المكنين”): الإهمال المتعمد تسبب في خسارتنا لجزء من تاريخ المدينة خاصة وقد استولى عدد من المواطنين على ملكيتها وحولوها إلى ملكية خاصة في مرحلة أولى ثم طمسها نهائيًا
وخلال لقائنا معه كشف لنا عن إحصائه لـ42 معلمًا تاريخيًا تم إنشاؤها بين القرن 13 و19 لم يبقَ منها سوى 21 معلمًا في حين اندثر معظمها بفعل الإهمال وعدم الصيانة، ومن بين المعالم التي بقيت 16 مسجدًا وزاويتان وضريح ومقام ولي صالح وكنيس يهودي يطلق عليه أهل البلدة اسم “بيعة اليهود”.
اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن “الراعي الطيب”
ويضيف بن عبد الحفيظ: “يحتوي الكتاب على 140 صورة بالألوان كنت قد التقطتها واستغرقت في جمع البيانات التي وردت فيه ما يناهز 4 سنوات، ومن أبرز الصعوبات التي اعترضتني في جمع المادة قلة المصادر والمراجع التي تناولت بالدراسة هذه المعالم وتأصيلها تاريخيًا. ولعل ذلك الإهمال المتعمد أحد أهم خسارتنا لجزء من تاريخ المدينة بعد أن استولى عدد من المواطنين على ملكيتها وحولوها إلى ملكية خاصة في مرحلة أولى ثم طمسها نهائيًا”.
ويبيّن لنا المؤلف أن “الكتاب يحتوي على بابين: باب أول احتوى على بيانات حول الجوامع والمساجد والأضرحة والمعابد، والباب الثاني فيه دراسة توثيقية لها”.
بن عبد الحفيظ لـ”الترا تونس”: لا بدّ من خلق مسلك سياحي يضم مجموعة من هذه المعالم التي تتوزع في منطقة جغرافية في المدينة العتيقة ثم ترتبط بالمتحف الأثري، وتنظيم تظاهرات ثقافية على الفضاءات الأثرية والمعالم
وفي حديثنا مع المؤلف، كشف لنا عن حجم التشويه الذي لحق تلك المعالم التي بقيت بسبب عمليات الترميم العشوائية خاصة في المساجد. كما أشار إلى الوضعيات العقارية التي تحوم حولها بعض الشوائب القانونية ومن بينها “جامع سيدي عبد الملك” الذي بقي مهجورًا وغير مستغل لأكثر من 50 سنة ورغم أنه بقي في سلامة من التشويه فإنه قد يتداعى بالسقوط نتيجة الإهمال، في حين أن مسجد “سيدي القوبين” لا يزال في حوزة أحد المواطنين ولم تتمكن السلط المحلية متمثلة في بلدية المكان من استرجاعه”، وفق روايته
إن الطرح الذي يبسطه “كتاب المعالم الدينية بالمكنين” يعتبر مناصرة من أجل تحرك المجتمع المدني وسلطة الإشراف من بلدية ومعهد وطني للتراث وغيرهما من الأطراف لأجل حماية هذا الموروث المادي، لكن غياب الإرادة الفعلية في التغيير وضعف التفاعل يدفع إلى مزيد التحفيز وذلك بإدماج هذه المعالم ضمن خطة سياحية وتنموية استراتيجية، وهو ما طرحه صاحب المؤلف بالقول: “لا بدّ من خلق مسلك سياحي يضم مجموعة من هذه المعالم التي تتوزع في منطقة جغرافية في المدينة العتيقة ثم ترتبط بالمتحف الأثري بالمكنين، وبعد ذلك بالقلالات (ورشات صناعة الفخار)، وتنظيم تظاهرات ثقافية على الفضاءات الأثرية والمعالم من زوايا ومقامات وساحات”، حسب تصوّره.
إن أسهم كتاب “المعالم الدينية في المكنين” في الكشف بالبيانات والصور عن جانب من التراث المادي للمدينة فإنه يحتاج إلى العمق والتخصص في دراسة كل معلم على حدة
وإن ما يزيد من ثراء المخزون الثقافي في مدينة المكنين التنوع الديني الذي كانت عليه المدينة قبل رحيل اليهود عنها، فقد شهدت المكنين تدفقًا لليهود في القرن السادس عشر إثر الهجوم الإسباني وقد بلغ تعداد اليهود في المكنين 699 مواطنًا سنة 1921 وقد “حطوا الرحال في ذلك الوقت بين عرشي أولاد قبيلة والزقاقية.. واشتغلوا بالتجارة وصناعة المصوغ، وبدأت مغادرة اليهود للمكنين منذ الأربعينات.. ولم يبق منهم اليوم سوى امرأة مسنّة تدعى “فرتونة هلال”.. وكانت “تقع البيعة في زنقة في حومة بالقرب من سقيفة سوق الذهب”.
الكنيس اليهودي وبعض من الممتلكات هي ما بقي من العقارات والأملاك غير أن ذلك المعلم الديني الذي كان مؤثثًا وأيقونة عمرانية تعرض إلى نهب محتوياته وتلف معداته ولم يبق منه غير الحطام، ولا تزال أعمدة قاعاته صامدة وتيجانه التركية قائمة وبعض منه يصارع البقاء”.
إن هذا المؤلف وإن أسهم في الكشف بالبيانات والصور عن جانب من التراث المادي لمدينة المكنين فإنه يحتاج إلى العمق والتخصص في دراسة كل معلم على حدة. ولعل ما يمكن إدماجه في أبواب هذه الدراسة التوثيقية التعرض إلى المقابر القديمة الإسلامية واليهودية باعتبارها ذاكرة المدينة حتى تثري هذا الموروث وتكشف امتداداته الجغرافية والتاريخية. كما أن تعزيز حضور الرواية الشفوية عن تاريخ المعالم الشاهدة أو المندثرة فد يضفي حياة ويعاضد الصورة والبيانات المنشورة…
https://ultratunisia.ultrasawt.com/ ماهر جعيدان