أحداث عامة

“ثلث المجتمع” مهدد بالانحراف، الإدمان، الجهل والاستغلال الجنسي والاقتصادي

بعد حوالي ربع قرن من إصدارها، عجزت مجلّة حماية حقوق الطفل عن حماية الأطفال من الظواهر السلبية التي تهدّدهم باعتبارهم من الفئات الهشّة في المجتمع والتي تتطلّب حماية مخصوصة من خلال تشريعات صرامة تحميهم من كل استغلال مادّي أو معنوي وتحفظ كرامتهم وتوفّر لهم بيئة أسرية واجتماعية قادرة على الإحاطة بهم ومراعاة حاجاتهم واحتياجاتهم..
فمنذ أيام والرأي العام يعيش على وقع صدمات متتالية جرّاء انتهاكات خطيرة وشنيعة طالت الأطفال والرضّع.. اذ لم يكد الرأي العامّ يستفيق من كارثة مركز التوليد وطبّ الرضع أين قُتل حوالي 15 رضيعا وفق إحصائيات رسمية (العدد مرشّح للارتفاع) بعد تطعيمهم بجرعة «سيروم» فاسدة، حتى باغتتنا مأساة «الاغتصاب الجماعي» لحوالي 20 تلميذا بإحدى المدارس الابتدائية بولاية صفاقس، من طرف «معلّم» يدرّس بنفس المدرسة، والذي قام بالاعتداء بالفاحشة على 17 طفلا من جنس الإناث و3 أطفال من جنس الذكور. ووفق تحقيقات أولية ثبت اغتصاب عدد من الأطفال، وقد تمت كل هذه الاعتداءات البشعة في منزل «المعلّم» في حصص الدروس الخصوصية التي صدر قانون يقضي بمنعها وكذلك في الحرم المدرسي دون حسيب ولا رقيب!
ووفق احصائيات رسمية أعدّها معهد الاحصاء في منتصف 2017 حول تشغيل وعمالة الأطفال، فان الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 يمثلون ثلث المجتمع التونسي.. لكن ثلث هذا المجتمع الذي يشهد اجتياحا كبيرا للظواهر الاجرامية والانحرافات السلوكية الخطيرة، بات مهدّدا بالجهل مع تواصل تسجيل حالات انقطاع مدرسي تتجاوز سنويا الـ110 آلاف حالة، وفشل البرامج التربوية المحتشمة في اعادتهم الى مقاعد الدراسة… ومهدّد أيضا بالانحراف بالنظر الى العدد المهول للأطفال الجانحين وكذلك بالتطرّف وبالادمان خاصّة مع الانتشار الكبير للمواد المخدّرة في الوسط المدرسي وفي المعاهد، كما أن ثلث المجتمع يتم استغلاله اقتصاديا في أعمال خطرة على الصحّة الجسدية والنفسية للطفل ويتم استغلاله جنسيا من خلال تعدّد وتواتر أحداث الاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكتاتيب ورياض الاطفال وفي المدارس وكذلك في أسرهم وأحيانا من طرف الأب أو الأخ !
ورغم أن تونس صادقت على كل المعاهدات البرتوكولات الدولية في مادّة حقوق الطفل، ورغم تخصيص الطفولة بتشريعات وطنية خاصّة ومضمنة صلب مجلّة حماية حقوق الطفل الصادرة منذ سنة 1995، ورغم أن الدستور الجديد في الفصل 47 منه ينصّ على أنّ «حقوق الطفل على أبويه وعلى الدولة ضمان الكرامة والصحة والرعاية والتربية والتعليم، وعلى الدولة توفير جميع أنواع الحماية لكل الأطفال دون تمييز ووفق المصالح الفضلى للطفل»، إلاّ أن الدولة المدجّجة بكل هذه الترسانة من القوانين والتشريعات أثبت الواقع أنها فشلت في حماية الأطفال من شتّى الظواهر الخطيرة التي تُهدّدهم.
أسر لا تحمي أطفالها
تأتي الدولة بأجهزتها ومؤسساتها كحلقة ثانية في حماية الأطفال من شتّى الانتهاكات بعد الأسرة، واليوم بالنظر الى تطوّر نسق الحياة الاجتماعية وخروج المرأة الى العمل واضطرار الأسرة الى إيداع الأطفال في محاضن أو رياض أطفال أو كتاتيب أو تنامي مؤشرات الفقر وتدهور المقدرة الشرائية للأسر، تضاعفت المخاطر التي تهدّد الأطفال. وقد أكّد تقرير لمرصد الإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات حول حماية حقوق الطفل، صدر منذ أشهر، أن 63 بالمائة من الإشعارات المتعلقة بتعرض أطفال إلى تهديد، تكون فيها الأسرة مصدر هذا التهديد، وأن 95 بالمائة من الأطفال يتسوّلون بإيعاز من أوليائهم، كما سجّل المرصد سنة 2017 880 حالة اختفاء طفل من الأسرة، وهذا الرقم المرتفع يعكس حجم المضايقات التي يواجهها الطفل في محيطه الأسري وهو ما يدفعه في الغالب الى الهروب من المنزل والاختفاء عن أسرته لتتلقّفه بعد ذلك «العصابات» و»المجموعات المنحرفة» في الشارع وتقوم باستغلاله، في الجريمة أو التسوّل وغيرها من الاعمال غير المشروعة.
كما يواجه الأطفال في أسرهم ارتفاع خطير في منسوب العنف المسلّط عليهم حيث أكّدت دراسة أنجزتها وزارة التنمية والتعاون الدولي بالتعاون مع منظمة «اليونيسيف» في 2012 تعرض حوالي 93% من الأطفال التونسيين ممن تتراوح أعمارهم بين 2 و14 سنة مرة واحدة على الأقل، إلى شكل من أشكال العنف، من خلال تسليط عقوبة نفسية، أو جسدية عليهم من قبل أمهاتهم أو ممن يتكفلون بهم، أو من أحد أفراد العائلة، كما أثبتت الدراسة نفسها أن أكثر من 30% من الأطفال تعرضوا لعقوبات جسدية صارمة.. وهذا العنف الذي تستخفّ به أغلب الأسر وتمارسه بشكل «متواتر» ضدّ الأطفال له تبعات خطيرة على نفسية الطفل حيث من الممكن أن يخلق منه شخصية عنيفة وعدوانية عندما يكبر، أو شخصية متطرّفة تميل لممارسة العنف.
أطفال في خلاف مع القانون
التقرير الأخير لدائرة المحاسبات أكّد أنه خلال السنة القضائيّة 2014 -2015 بلغ عدد القضايا المفصولة 6246 قضيّة في مادّة جناحي الأطفال و319 قضيّة في مادّة جنائي الأطفال وعدد الأطفال المحكوم عليهم 7506 طفلا والحالات المتعهّد بها خلال سنة 2015 من قبل المصالح الأمنيّة 2549 حالة… وهذا العدد الكبير للأطفال المحكوم عليهم بعد اقترافهم لأعمال مخالفة للقانون يعكس مدى تفشّي ظاهرة انحراف الأطفال، وهذه الظاهرة تعكس بدورها هشاشة الاحاطة الأسرية وكذلك غياب آليات وطنية ناجعة تحمي هؤلاء الأطفال وتوفّر لهم بيئة سليمة تسمح بتربية متوازنة بعيدا عن الانحراف والعنف.
وفي سياق متصل أكّد تقرير مرصد الإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات حول حماية حقوق الطفل تطوّر عدد الجرائم التي تورّط فيها أطفال من 2540 جريمة سنة 2016 الى 3640 جريمة سنة 2017 تتعلق بالخصوص بالسرقة والاعتداء بالعنف.
الأطفال و«الحرقة»
قد تبدو مسألة سعي الأطفال لـ»الحرقة» من المسائل الغريبة وغير المألوفة، ولكن سنة 2017 تم تسجيل 225 محاولة اجتياز للحدود خلسة من قبل أطفال منهم 4 حالات دون سن الرابعة والبقية تتراوح أعمارهم بين 13 و18 سنة! وذلك حسب مؤشرات رسمية قام بتجميعها مرصد الإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات حول حماية حقوق الطفل.. وهؤلاء الأطفال كان بعضهم بصحبة بعض أقاربهم والبقية سعوا إلى «الحرقة» بإمكانياتهم الخاصّة من خلال قيامهم بجمع الأموال المطلوبة (عادة يكون مصدر هذه الأموال غير مشروع)، ولكن الأغرب أن بعض الحالات – وفق معطيات تسنّى لنا جمعها – ساعدهم أحد أفراد العائلة على جمع المال اللازم، وفي كلتا الحالتين يبدو الامر صادما وغير مألوف خاصّة وأن تجربة «الحرقة» تجربة مأسوية تنتهي في غالب الأحيان بكوارث وفظاعات..
التشغيل القسري للأطفال..
وفقا للمسح الوطني الذي أعدّه معهد الإحصاء ووزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة العمل الدولية في أواخر سنة 2017 يبلغ عدد الأطفال الناشطين اقتصاديا أكثر من 215 ألف طفل. وأكدت الدراسة أنّ 136 ألفا من بين هؤلاء الأطفال يعملون في أعمال خطيرة.
وبحسب وزارة الشؤون الاجتماعية فإنّ نحو 50 في المائة من نسبة الأطفال يعملون في الأعمال الفلاحية، في حين يعمل نحو 20 في المائة منهم في التجارة. وتتوزع بقية النسب على بعض الأعمال الحرّة والحرف وغيرها. وقد أكدت دراسة أعدّتها جمعية النساء التونسيات من أجل التنمية في عام 2016، أنّ هناك نحو 78 ألف معينة منزلية في تونس 17.8 في المائة منهن أطفال وهنّ ينحدرن في الغالب من مناطق ريفية مهمّشة ومن ولايات ومعتمديات فقيرة.. ورغم صغر سنّهن يتم استغلالهنّ في أعمال منزلية مرهقة والاساءة لهنّ وحرمانهنّ من أبسط حقوقهن كأطفال وهو الحقّ في اللعب..
أماكن «احتجاز»
مع المتغيّرات الاجتماعية الكبيرة التي يشهدها المجتمع، وخروج المرأة للعمل تحوّلت رياض الأطفال والكتاتيب الى شريك أساسي للأسرة في تربية النشء وفي العناية بالأطفال، وقد شهدت هذه الفضاءات «التربوية» طفرة هائلة بعد الثورة وانتشرت بشكل كبيرا وعشوائيا حيث تصنّف ضمن المؤسسات الأكثر «فوضوية» سواء من حيث التنظيم أو من حيث المضامين التي يتلقاها الأطفال في صغرهم أو في حرمانهم بحقهم في اللعب، وتعويضه بحشو أدمغتهم بمواد متعددة قد تعجز مدارك طفل في سنواته الاولى على استيعابها، وذلك بسبب تدهور مستوى تكوين المشرفين على هذه الفضاءات.
بالإضافة الى أن عددا كبيرا من هذه الفضاءات لا يستجيب للمعايير التي يشترطها المختصون لإيواء الأطفال حتى ولو لسعات معينة. كما تفتقد أغلب هذه الفضاءات الى مساحات للعب، حيث لا يتم السماح للأطفال بالقيام بأي نشاط بدني يسهم في اظهار نشاطهم وتحقيق توازنهم النفسي والفكري، وبالتالي أصبحت هذه الفضاءات بمثابة أماكن لاحتجاز الأطفال طوال اليوم.

المصدر الصباح نيوز