أحداث عامة

المهدية: عصابات تنهب المواقع الأثرية لغابة “الغضابنة “

غابة «الغضابنة» الواقعة بين معتمديتي قصور الساف، والشابة من ولاية المهدية حباها الله بطبيعة «عذراء» ساحرة، لكنّها بقيت تعاني من الإهمال «تنهشها» أيادي «عصابات» نهبت كنوزها الأثرية، وسرقت رمالها، وقطعت أشجارها..

عندما تتوغّل بين المسالك الوعرة لغابة «الغضابنة»، وتعتلي احد الكثبان الرملية يأسرك مشهد امتزاج خضرة الأشجار المترامية، والنخيل الباسق بزرقة مياه البحر الصّافية التي تتكسّر أمواجها على ضفاف شاطئ اختزن كل «أسرار» الجمال، لكنك حين تدقّق النظر في زوايا، وتفاصيل الأمكنة تكتشف حجم الاعتداءات البشعة على المواقع الأثرية المنتشرة هنا، وهناك، وتقف مذهولا أمام الانتهاكات اليوميّة التي تتعرض لها الثروة الطبيعية بالمنطقة.
نهب الآثار…
كانت الساعة تشير إلى حوالي الساعة الرابعة مساء عندما عبرنا مسلكا فلاحيا وعرا صحبة دليلنا في الزيارة «الصحبي» لنصل إلى منطقة «العرق»، وتحديدا إلى الموقع الأثري «الدّواميس»، حيث عاينّا وجود كميات من الحجارة وقع استخراجها من بناءات أثرية قديمة ملقاة في أماكن مختلفة، ومجموعة من الآبار، و»الفسقيات» التي تعود حسب بعض المصادر إلى العهدين البونيقي، والروماني تعرّضت حواشيها إلى الكسر من قبل الباحثين تحت جُنح الظلام عن الكنوز الأثرية، والتي كانت تُستعمل على الأرجح في خزن المؤونة، والماء.
آثار النبش، والاعتداءات المتكررة خاصة بعد الثورة على هذه المواقع الأثرية بحثا عن الكنوز المدفونة في عمق الأرض، والقطع النقدية الأثرية (عثرنا على إحداها خلال جولتنا) تبدو ظاهرة للعيان باعتبار بُعدها نسبيا عن المناطق السكنية، وانعدام الحماية، وغياب المراقبة الأمنية المستمرّة بها، ووقوع بعضها في أراض يدّعي أصحابها أنها على ملكهم الخاص (ضايقنا أحدهم، وحاول منعنا من التصوير) رغم المراسلات، والنداءات المتعدّدة من قبل الأهالي، والنّاشطين في المجتمع المدني إلى السلطات المعنيّة من أجل تسجيلها في قائمة المواقع الأثرية المحميّة، لكن لا حياة لمن تنادي.
اعتداءات على الثروة الغابية
غير بعيد عن المواقع الأثرية المهملة تُقترف يوميّا اعتداءات صارخة على الثروة الغابية من خلال إقدام عدد من المتساكنين، وحتى القادمين من جهات أخرى على قطع الأشجار بطريقة عشوائية، ونقل كميات كبيرة منها على متن الشاحنات، والعربات المجرورة خاصة التي جابت  المكان ذهابا، وجيئة أمام أنظار أعوان حراسة الغابات دون أن يحرّكوا ساكنا، هذا إلى جانب تنامي ظاهرة الرّعي العشوائي لقطعان المواشي، وتحوّل عدد من المناطق في عمق الغابة إلى مصبّات للفضلات بجميع أنواعها مع ما يرافق ذلك من انتشار الحشرات السامّة، والرّوائح الكريهة، ومن تشويه لجمال هذه الغابة المترامية الأطراف.
وفي مواصلة لـ»مسلسل» الاعتداءات على هذه الثروة الطبيعية النادرة في حوض المتوسط فقد عمد عدد من أصحاب الشاحنات الثقيلة، والعربات المجرورة، والآلات الجارفة إلى سرقة رمال الغابة بصفة متواترة دون تراخيص قانونية وهو ما خلّف «تجويفات» واسعة  تشبه «المقاطع» وسط الغابة قد تتسبب في اختلال توازن المنظومة البيئية خلال السنوات القادمة إذا ما تواصل الحال على ماهو عليه بالنظر إلى تأثيراتها السلبية على الغطاء النباتي، وعلى حماية المنطقة من التصحّر، وزحف الرّمال.
اكتشاف أثري ضخم
أكد الأستاذ محمد حواص ممثّل المعهد الوطني للتراث بالمهدية لـ»الشروق» أن الموقع الأثري بمنطقة «الدّواميس» الذي تم اكتشافه مؤخرا يمثّل قيمة تاريخية هامة جدا تعود إلى الحقبة الرّومانية، وبالتحديد على الفترة الممتدة بين القرنين الأول والثاني بعد الميلاد مع وجود آثار لم تتوضّح جليّا ترجع إلى الفترة البونيقية وهي تتمثل في شبكة مخازن لحفظ المؤونة، و»فسقيات» لخزن الماء، ولوحات فسيفسائية من المرجّح حسب الأبحاث الأوّلية أن تكون مرتبطة بميناء تجاري ضخم لم يتمّ اكتشافه بعد.
وأضاف الأستاذ حواص أن فريقا متعدّد الاختصاصات تابعا للمعهد الوطني للتراث يقوم حاليا بعمليّات مسح لتعيين حدود الموقع الأثري الذي لم تٌسلّط عليه الأضواء إلا مؤخرا بعد مراسلات، وضغوطات عديدة من أجل إيلائه العناية اللازمة، مشيرا إلى أنه فوجئ بعمليات النّبش، والنهب التي تعرّض لها من قبل مهرّبي، وتجّار الآثار قبل تدخل الجهات المعنية التي تمكّنت من إنقاذ عدة قطع أثرية ثمينة أغلبها تمثّل أجزاء معمارية ضخمة على غرار «الصّواري»، و»القاعدات»، والأعمدة تم حفظها في مخازن بلدية الشابة في انتظار إيداعها في متحف خاص من المُبرمج تشييده مستقبلا، مشدّدا على ضرورة حماية هذا الموقع انطلاقا من وعي الأهالي، ووصولا إلى إدارة الغابات، والجهات الأمنية الذين يجب أن تتكاتف جهودهم للحفاظ على الموروث التاريخي، والحضاري للبلاد.
قرارات جريئة…
ومن جهته قال مختار رواق رئيس دائرة الغابات بالمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بالمهدية إن أكثر من 20 عون حراسة غابات يقع تعزيزهم بعملة الحضائر خلال فصل الصيف يبذلون مجهودات جبّارة للتقليص قدر الإمكان من الاعتداءات على الثّروة الطبيعية بغابة «الغضابنة» الممتدة على مساحة تناهز 693 هكتارا باعتبار تشعّب، وتعقّد الوضعية العقارية بالمنطقة (أغلبها ملكية على الشّياع)، ودور الدولة التي لا تملك قانونيا خلافا لما يُشاع ولو متر واحد في الغابة يقتصر على التدخل بموجب الإخضاع لنظام الغابات وفق الفصل الرابع من مجلة الغابات، حيث تم تسجيل 50 محضرا في المدة الأخيرة ضد أكثر من 185 مواطنا من أجل تكسير، وقطع الأشجار، وجرف الأرض، وتحويل صبغتها من غابية إلى فلاحية.
أما في ما يخص سرقة الرمال من الغابة فقد أوضح رواق أنه في ظل عدم وجود أي فصل قانوني يردع المتجاوزين في مجلة الغابات فإن فرقة المتفجرات التابعة للحرس الوطني تعمل بدورها على الحدّ من هذه الظاهرة من خلال تسجيل المحاضر، وحجز الآلات الجارفة، لكن الحلّ الجذري وفق رأي رئيس دائرة الغابات لتجاوز مختلف هذه الاشكاليات المعقّدة هو اتخاذ قرارات جريئة من قبل أجهزة الدولة العليا، والإسراع بإجراء المسح العقاري الإجباري، وتقديم تعويضات مادية لكلّ من يقدم وثائق تثبت ملكيته لأرض بالمنطقة.
وختم رواق حديثه بالتأكيد على أن إجراء المسح العقاري الإجباري سيساهم بدرجة كبيرة في تيسير عملهم، وفي حمايتهم من التهديدات، والتعنيف الذي يتعرضون له بصفة متواترة، إلى جانب الحفاظ على الثروة الطبيعية بالغابة، وعلى توازنها البيئي، وتنوّعها البيولوجي المتكوّن أساسا من أشجار «الكلتوس»، و»البندق»، و»الأكاسيا»، وحيوانات الحجل، والأرنب، والخنزير الوحشي، والسلحفاة البحرية وهو ما سيفتح أمام هذه الغابة الساحلية النادرة آفاقا سياحية واعدة لعلّ من أبرزها الانطلاق في تشييد المشروع الايكولوجي الضخم بالغضابنة المعطّل منذ سنوات، والذي يمكن أن يحقق للمنطقة، ولجهة المهدية برمّتها نقلة نوعية على جميع الأصعدة.

المصدر الشروق