“هنشير النفيضة” ليس مجرد أرض منبسطة مترامية الأطراف، وإنما هو إحدى حكايا المملكة والسلطان والمستعمر والطغيان والدولة والديوان. لم تكن أرض النفيضة سهلًا منبسطًا خصبًا فحسب بل قصة قوم نزلوها وانتزعت منهم ليمتلكها الوافد من وراء البحار، لتظل إلى اليوم محل نزاع حول حق مسلوب تتوارثه الأجيال في المنطقة.
كيف يمكن أن نروي قصة النفيضة دون أن نزور أرضها ونرى أهلها ونعبر مسالكها الفلاحية، ونشاهد آثار المجتمع الزراعي الذي آلف تربتها وحجرها؟ لم تكن النفيضة اليوم تلك التي قرأت عنها في كتب التاريخ بل هي أقرب إلى “الجنة الضائعة”، هي أرض الغنيمة على مر التاريخ.
النفيضة هي إحدى معتمديات ولاية سوسة تبعد عنها 45 كم، وهي على مشارف خليج الحمامات، تحدها شمالًا ولاية نابل، فيما تبعد نحو 100 كم عن العاصمة، ولها حدود شرقية بحرية، وشواطئها من أجمل السواحل التونسية، وتتناثر في أرجائها القرى والأرياف. وكانت تسمى “دار الباي” ثم أطلق عليها اسم “مدينة النفيضة Enfidha ville” لتستقر على اسمها الحالي “النفيضة”.
سُميّت مدينة النفيضة في البداية باسم “دار الباي”
لما تجولت في أرجاء المدينة، لم يكن من العسير اكتشاف النمط العمراني الأوروبي في بناءاتها المتجانس مع النمط الأندلسي الإسلامي، وهو ما يُرى من خلال القباب والزخرفة. وتتوسط المدينة كنيسة القديس البيزنطي أوغسطينوس التي أًسست سنة 1907، ثم تحولت إلى متحف يضم الآثار الرومانية والبيزنطية من زخارف وفسيفساء مجمّعة من أرجاء المنطقة.
بجولة في إحدى الأحياء السكنية بالنفيضة، يلفت الانتباه الفوضى وعدم تناسق التقاسيم والبناءات السكنية وسط البلدة المنجزة بعد الاستقلال، كما لاحظنا نمطًا عمرانيًا هجينًا يجمع بين كافة المدارس الشرقية والغربية. ويحتل ديوان الأراضي الدولية مساحات شاسعة تبلغ أكثر من 7 هكتارات لكن توجد على أطرافها منطقة صناعية عصرية حديثة متناسقة ومنظمة، فيما يُعتبر مطار النفيضة الحمامات الدولي أيقونة الجهة.
قضية النفيضة أو ما تُعرف بقضية “الرسم العقاري 6648” تتعلق بأراضي يملكها مواطنون دون سند ملكية بسبب إشكال عقاري تاريخي يعود لنهاية القرن 19
كانت جولتنا في النفيضة فرصة لاكتشاف تعلق مجتمعها بالأرض، ولم يكن من العسير ملاحظة مظاهر الاستغلال الفلاحي للأراضي الممتدة على مشارف المدينة غير أن أول مصافحتنا لبعض الأهالي الذين جالسونا في إحدى المقاهي المكتظة بالشباب العاطل عن العمل قد أعربوا عن مدى حنقهم التاريخي المتأصل من الحرمان من “حق التملك”.
مزارعون دون أرض، ومستغلون دون ملكية، ومتحوزون دون وثائق، ومقيمون لكن مهددون بالطرد وساكنون دون حق في الإقامة، هكذا ردد جميع من كان حولي إلا القليل منهم الذي ظل صامتًا دون حديث، وهو ما مثل دافعًا متجددًا للبحث في قضية النفيضة أو ما تُعرف بقضية “الرسم العقاري 6648”.
لمحة تاريخية: من ملكية الدولة إلى ملكية خير الدين باشا
اتصل “ألترا تونس” بفؤاد عطية كاتب عام جمعية “6648”، وهي جمعية تأسست عام 2012 تهتم بالشأن العقاري بمنطقة النفيضة، الذي أكد لنا أن المسألة العقارية في الجهة ضاربة في القدم تاريخيًا، مشيرًا إلى أنها احتدمت عند بيع خير الدين باشا هنشير النفيضة إلى “شركة مرسيليا للقرض” (Societe marseillaise de crédit) عهد الصادق باي عام 1880.
خير الدين باشا، الذي كان يلقب بالمصلح، منحه الباي “هنشير النفيضة” الذي يمسح 100 ألف هكتار لقاء تعويض عن الجراية العمرية التي خصصها له وعجزت الإيالة التونسية عن سدادها. وقد اختلفت الروايات التاريخية حول إذا ما كان خير الدين استحوذ على الهنشير بطلب منه أو إثر عرض الصادق باي، وإن انتقلت ملكية هذا الهنشير، في الحالتين، من ملكية المملكة التونسية العام (البايليك) إلى ملكية خاصة لخير الدين باشا ليتصرف فيه كما يشاء.
قيمة أملاك خير الدين باشا المباعة إلى الشركة الفرنسية (الأرشيف الوطني التونسي)
وخلال بحثنا في أرشيف المكتبة الوطنية الفرنسية، نجد ضمن رواية “La vie errante” للرحالة المؤلف الفرنسي ڨي دي موباسان “Guy de Maupassant”، خلال زيارته للنفيضة في وجهته نحو القيروان، أنه “في سنة 1872 عجز حكم البايات عن سداد دين لخير الدين باشا فمكنته من هنشير النفيضة ليتملكه دون صعوبات تذكر، غير أن خير الدين سعى لبيعه سنة 1879 بعد مغادرته تونس نحو إسطنبول لما اهتزت مكانته عند الباي. وقد تمت صفقة البيع بين خير الدين و”شركة مرسيليا للقرض” في جويلية/يوليو سنة 1880 وبذلك انتقلت الملكية إلى الشركة الفرنسية. وقد أثار هذا البيع حفيظة الإيطاليين والانقليز، وخاصة أحد جيران الهنشير المذكور وهو جوزيف ليفي، اليهودي الأصل، والذي ارتكز على أولويته في تملك الهنشير بموجب المذهب الحنفي الذي يقر حق شفعة الجار”.
منح الصادق باي هنشير النفيضة لخير الدين باشا عام 1872 الذي قام ببيعه لاحقًا لشركة فرنسية
ويذكر محمد العفيف الجعيدي في مقال له ضمن المفكرة القانونية تحت عنوان “هنشير النفيضة: لأجله كان قانون التسجيل العقاري في تونس وفيه ظهر وهنه” أن استيلاء الباي على هنشير النفيضة بعقاراته الفلاحية وتجمعاته السكانية أدى إلى “تحويل أصحاب الأرض التاريخيين والفعليين إلى متسوغين يدفعون معاليم كراء لمن مكنته سلطته من الاستيلاء على أرضهم”.
وتأييدًا لما ذهبت إليه الوثائق التاريخية، يذكر الأستاذ فؤاد عطية أن ملكية الهنشير التي استقرت للفرنسيين تتراوح مساحتها بين 96 و100 ألف وتبلغ قيمة البيع 2.550 مليون فرنك، مؤكدًا على أن هناك مناطق ليست ضمن الهنشير ومن بينها الحبس أو الأوقاف في منطقة قريميط، وعين القارصي، ومساكن تكرونة وجرادو إضافة إلى مساحات أخرى على ملك الدولة العام.
يخبرنا فؤاد عطية كاتب عام جمعية “6648”، من جهته قائلًا: “خلال تلك الحقبة وتحديدًا خلال ثورة علي بن غذاهم، اضطر أولاد سعيد للهجرة نحو الشمال والغرب وذلك بعد التنكيل بهم من قبل قبائل جلاص وسكان القلعة الكبرى بسبب عدم مساندتهم لثورة علي بن غذاهم ثم تلت ذلك موجة أخرى من النزوح بعد استيطان الشركة الفرنسية ودخول الاستعمار وإثر ذلك استوطنت قبائل أخرى منطقة النفيضة”.
رسالة خير الدين باشا إلى الكومسيون المالي حول معاوضة هنشير النفيضة بالجراية العمرية (الأرشيف الوطني التونسي)
ويؤكد محدثنا أنه بعد ترسيم الهنشير في دفتر خانة تحت رسم عدد 6648، حاول المستعمر استرضاء الأهالي ودعاهم إلى العمل بالشركة، وقد اختار الفرنسيون الأراضي الخصبة وقسموها تقسيمًا محكمًا ومنظمًا، ونهجوا، بخصوص أراضي أخرى ذات تكلفة عالية في الاستغلال والاستصلاح، لما يسمى تشريع الأرض أو تسويغها لمدة معينة أو استغلالها في إطار عقود مغارسة، مشيرًا أنها أراضي لم تكن خصبة، وذلك مقابل التفويت بالبيع للعمال الأوروبيين في الأراضي الأخرى.
ويضيف أن منطقة النفيضة أصبحت تضم أحدث وسائل الإنتاج في زراعة الحبوب والزيتون وإنتاج الأجبان وتربية الماشية، وقد اشتهرت بزراعة “السكوم”، وهي خضروات تستعمل في السلطة وتصدر للخارج، وقد اعتنت بهذه الانتاجات الشركة الفرنسية الإفريقية (Société franco-africaine) وهي إحدى الأجنحة الاستعمارية الاقتصادية الفرنسية، وفق تأكيد محدثنا.
ويذكر الجعيدي في مقالته، سابقة الذكر، أن “الاستقلال الحقيقي للهنشير” لم يتحقق فعليًا إلا بصدور القانون عدد 5 لسنة 1964 مؤرخ 12 ماي 1964 والمتعلق بملكية الأراضي الفلاحية في تونس والذي يصطلح على تسميته بقانون الجلاء الزراعي، إذ منع هذا القانون غير التونسيين من تملك العقارات الفلاحية التونسية، وهو ما يعني نزع ملكية الأجانب للعقارات الفلاحية، معتبرًا أن هذا القانون حرر منطقة “هنشير النفيضة” من “سلطة الرأسمال الفلاحي الاستعماري”. واستدرك بالقول: “كان يمكن أن يكون فعل التحرير هذا مدخلًا لتصحيح مظلمة كان القانون والسلطة سلاحها وأدت الى حرمان أهل الأرض من أرضهم، إلا أن تغيير المالك بحكم القانون أدى مرة اخرى إلى تغييب الحقوق التاريخية لأصحاب الأرض الحقيقيين بعدما جعل الدولة التونسية خلفًا بحكم القانون للمستعمر”.
أجيال تتوارث حقًا مسلوبًا
لم يكن هذا الواقع المؤلم لوضعية الأراضي الدولية بالنفيضة ليقع حلحلته إلى اليوم مما جعل أهالي النفيضة يعتبرون أن المظلمة لا تزال متواصلة، خاصة وقد أثر الوضع العقاري على التنمية بالجهة وهو ما أثار حفيظة المجتمع المدني على مر العقود الماضية.
يؤكد فؤاد عطية كاتب عام جمعية “6648”، لـ”ألترا تونس” في هذا الإطار، أن المواطنين في النفيضة بحاجة شديدة اليوم لتسوية وضعية عقاراتهم على اعتبار أنهم لا يمتلكون سند قانوني للملكية والحال أنهم يستغلون الأراضي وقد شيدوا فوقها بناءات.
حق الملكية هو حق مسلوب تتوارثه الأجيال في النفيضة (ماهر جعيدان/الترا تونس)
ويضيف أن الدولة تمنح، في المقابل، عقارات للوكالة العقارية للسكنى والوكالة العقارية الصناعية، كما تمنح أراضي للمجلس الجهوي للولاية لبناء مساكن في المناطق الريفية دون احترام الملكية وترسيم العقارات المقتطعة من الرسم 6648 مع إحداث رسوم أخرى مما تعذر معه منح شهائد ملكية من “دفتر خانة” (إدارة الملكية العقارية).
ويشير محدثنا أن المواطنين يقطنون اليوم في مناطق دون شهائد ملكية، وقد مثل هذا الملف بوابة للفساد الذي تعاني منه المنطقة وفق تأكيده. وتحدث، في هذا السياق، عن قيام عديد المستثمرين والمحتكرين الكبار باستغلال الإشكال العقاري من خلال اقتناء الأراضي بأبخس الأثمان ثم قاموا لاحقًا بتسوية وضعيتها بالحصول على شهادات ملكية “بطرقهم الخاصة” وفق تعبيره، مشيرًا لاطلاع هذه الأطراف منذ سنوات على نية الدولة في إحداث ميناء وخاصة خلال الفترة المتراوحة بين سنتي 2000 و2005.
ويتحسر كاتب عام جمعية “6648” لحرمان الأجيال منذ الاستقلال للآن من شهائد الملكية لتقديمها كضمان للحصول على قروض استهلاك أو لإنجاز مشاريع، مؤكدًا أن منطقة النفيضة تمتلك ثروات هامة من أخصب الأراضي الفلاحية و”أفضل شاطئ” في منطقة الساحل وموقع إستراتيجي هام بتوسطها لأربعة ولايات، وهي سوسة وزغوان ونابل والقيروان، وهي منطقة تمثل مع العاصمة أكبر سوق استهلاكي بالبلاد التونسية، ولكن لازالت النفيضة الأفقر تنمويًا بين كافة مناطق الساحل، هكذا يحدثنا فؤاد عطية متأسفًا.
هنشير-النفيضة-غنيمة-الدولة-عبر-العصور/ماهر-جعيدان https://ultratunisia.ultrasawt.com/